أنا الماء… أروي الأرض، وبي تكتمل الحياة. قال الله عني: (وجعلنا من الماء كل شيء حي). بي تنبت الثمار، ويتكوّن الإنسان، أهب الحياة وأطهر النجاسة، ومني تفجّرت زمزم، فأصبحت معجزة خالدة.”
لكني اليوم… أكتب رسالة اعتذار.
رسالة أقدّمها للزمن، للتاريخ، للضمير الإنساني.
أنا الماء… أروي بين أيديكم “حكاية العطش”.
شددت الرحال معهم، مع قافلة النور التي خرجت لا تطلب دنيا ولا سلطانًا، بل خرجت لإحياء روح الدين. رأيت الأطفال والنساء والرجال، يتوجهون إلى مصيرٍ كنت أجهله، لكن ملامحهم المنيرة كانت تهمس بالحقيقة: “نحن أهل بيت النبوة… وموضع الرسالة
سافرت معهم، لكنني كنت شحيح الوجود. بدا أن الزاد قليل، والطريق طويل. وجوههم شاحبة، وأجسادهم أرهقها الحر، لكن الإمام الحسين عليه السلام يقودهم بثبات، يلتفت للأطفال، ويتفقد النساء، ينظر نحوي كلما غبت، وكأن عينيه تقول: “حكايتي تبدأ عند آخر قطرة ماء.”
وصلنا إلى أرضٍ موحشة. سأل الحسين عنها، فقيل: “كربلاء”.
فترجّل وقال:
“هاهنا محط ركابنا… هاهنا تُقتل رجالنا… وهاهنا تُذبح أطفالنا وتسبى نسائنا .”
نزلوا في أرض قاحلة، لا زرع فيها ولا ماء. كانوا سبعين رجلاً، مع نساء وأطفال، يواجهون جيشًا عدده ثلاثون ألف فارس. ومع ذلك، لم يتراجعوا، ولم تهن لهم عزيمة.
في اليوم العاشر من محرم، كان العطش قد أكل الأجساد، وجفّ اللسان، وارتفعت صرخات الأطفال: “العطش! العطش!”
الفرات قريب… لكنه محاصر.
أُغلق عنهم الماء، كأنهم لا يستحقون الحياة.
خرج العباس، حامل لواء الحسين، قاصدًا النهروصل إلى الماء، مدّ يده ليشرب، لكنه تذكّر عطش الحسين… فألقى الماء وقال: “كيف أشرب وسيدي الحسين عطشان؟” فكان رمزًا للوفاء الذي لا يُقاس، والتضحية التي لا تُنسى.
قاتل العباس بكل جوارحه ليصل بالماء إلى الخيام، فقطعوا يديه، وأصابوا عينيه، فسقط شهيد الوفاء.
ثم خرج الحسين حاملاً رضيعه عبد الله بين يديه، نادى القوم قائلاً:
“إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل…”
بكل قسوةٍ وتردّد، تشاور القوم في أمر الرضيع،
حتى صاح عمر بن سعد: “يا حرملة، اقطع نزاع القوم.”
فأطلق حرملة سهمًا ثلاثيّ الشعب، اخترق نحر الطفل بين يدي أبيه،
فشهق الرضيع شهقته الأخيرة، وسكن…
فرفع الحسين كفّيه المضمّختين بدم ولده نحو السماء،
وفي ساحة كربلاء، تساقط الأبطال واحدًا تلو الآخر،
حتى لم يبقَ إلا الحسين وحده، يواجه سيوف الظلم عطشانًا، مثقلاً بالفقد، منهك الجسد، لكنّه شامخ كالجبل.
قاتلهم بصبر الأنبياء وبأس الأوصياء، حتى سقط شهيدًا، وحيدًا… عطشانًا… مظلومًا على تراب كربلاء.
انتهى القتال…
لكن لم تنتهِ حكاية العطش.
جاؤوا إلى الخيام، أضرموا النيران، وهاجموا النساء والأطفال…
سلبوا، سبوا، وضربوا… ثم جاؤوهم بالماء.
لكنهم أبوا أن يشربوا، وقد تذكّروا عطش الحسين، ورضيعه، والعباس، وأصحاب النبل والولاء.
رفضوا الماء… وارتوت قلوبهم بدموع الحزن، لا بقطرات الفرات.
ومنذ ذلك اليوم، ما عاد الفرات يُسمى نهر الحياة…
بل صار يُعرف بنهر العلقم، شاهدًا على العطش، والخذلان، والمظلومية.
وبدمائهم، كُتبت أعظم حكاية للحق في وجه الطغيان…
فخلدت كربلاء في الذاكرة، وصار الماء… دمعةً لا تُنسى.
وفي نهاية الحكاية…
تبقى كربلاء نداءً لا يخفت، ودمعة لا تجف، وعبرةً لكل قلب حرّ.
لم يكن العطش عطش جسد فقط… بل عطش كرامة، عطش عدل، عطش حقٍّ أراد أن يُروى بدماء الأطهار.
رحل الحسين، لكن اسمه بقي في كل قطرة ماء، وفي كل قلب ينبض بالوفاء.
فمن بعده، ما عاد الماء يُشرب كما كان…
صار كل شاربٍ يهمس في قلبه:
“شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني…”
اذكروا الحسين في عطشه، في غربته، في صبره…
وكونوا له أوفياء، لا بالكلمات فقط، بل بالمواقف، بالضمير، وبالدمعة الصادقة كلما بللتم أفواهكم بماءٍ عذب.
فحكاية العطش… ليست نهاية، بل بداية لرحلة الإنسان نحو معنى أعمق للحياة، والحق، والحرية.
“يا أبا عبد الله…
لم نكن في كربلاء،
لكنها سكنت فينا…
لم نسمع أنينك،
لكن أنيننا منذ صغرنا لا يشبه إلا أنينك.
يا سيد العطاشى…
كلما شربنا… اختنقت قلوبنا بذكرك،
وكلما بكينا… شعرنا أن دمعتنا قطرة في بحر مصيبتك.
يا حسين…
دمك أيقظ الضمير الإنساني،
ورأسك المرفوع على الرمح علّمنا كيف نثبت لله، حتى لو سقطت الرؤوس.
أنت يا أبا عبد الله، ما متَّ…
بل أحييت قلوبًا، وسقيت أمةً، وأورثتنا طريقًا لا يُمحى.
فسلامٌ على العطشان ما بقي الليل والنهار،
وسلامٌ على الدم النقي حين اختلط بتراب الطف،
وسلامٌ على القلوب التي لا تنسى…
وسلامٌ على كل دمعةٍ تنزل عند شرب الماء،
وسلامٌ على كل قلبٍ يهتف: لبيك يا حسين…”